قال فضيلة الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، إن “روح الأزهر تسري في نفوس أبناء إندونيسيا، ولم لا تسري هذه الروح وبين شعبي مصر وإندونيسيا علاقات قوية على المستوى الرسمي والشعبي في كثير من مجالات الحياة؟! لقد كانت مصر من أوائل الدول التي رحبت باستقلال إندونيسيا في 17 أغسطس 1945”.
وكيل الأزهر يشارك في احتفالية نهضة العلماء بإندونيسيا فرع القاهرة
وأضاف الضويني: “وأذاعت الخبر في وسائل الإعلام الجماهيرية، وفي 22 مارس 1946 اعتمدت وزارة الخارجية المصرية جمعية «استقلال إندونيسيا» ممثلا رسميا عن حكومة بلادها المستقلة، وفي 15 مارس 1947م أعلنت مصر اعترافها الرسمي باستقلال إندونيسيا، وبعد ثلاث سنوات، وفي 25 فبراير 1950م، باشرت سفارة إندونيسيا بالقاهرة أعمالها، وكان أول سفير لإندونيسيا في القاهرة هو محمد رشيدي، أحد خريجي جامعة الأزهر الشريف”.
وتابع: “وأما العلاقة العلمية بين مصر وإندونيسيا فقديمة تعود إلى عدة قرون، فقد كانوا يستغلون مواسم الحج للقاء علماء الأزهر لسؤالهم عما يشغلهم من مسائل الفقه والشريعة، ثم بدأ قدوم الإندونيسيين منذ أكثر من قرن ونصف إلى مصر لينهلوا من علوم الأزهر وشيوخه الأجلاء”.
وأوضح وكيل الأزهر خلال كلمته باحتفالية نهضة العلماء بإندونيسيا فرع القاهرة، والتي جاءت تحت شعار "الإنسانية والسلام"، أن الأزهر عني بأبناء إندونيسيا الراغبين في العلم، فخصص لهم أحد أروقته ونسبه إلى «جاوة» أكبر جزر إندونيسيا، وما زال هذا الرواق موجودا حتى اليوم في حرم الجامع الأزهر تحت اسم «الرواق الجاوي»؛ ليشهد بعمق العلاقة العلمية التي استمرت حتى يوم الناس هذا.
وأشار إلى أنه استمرارا لهذا المنهج الكريم أسس الأزاهرة من أبناء إندونيسيا رواقا جديدا أنشئ قبل سبع سنوات تقريبا تحت اسم «رواق إندونيسيا»، وهو رواق تشهد فعالياته بحب أبناء إندونيسيا للأزهر.
وذكر أنه بهدف نشر الوسطية والسلم والتعايش ونبذ العنف والإرهاب، زار فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف جاكرتا عاصمة إندونيسيا عام 2016م، واعترافا بهذا الأثر الأزهري المبارك، وتقديرا لإسهاماته وجهوده في نشر قيم الوسطية والسلم ونبذ الإرهاب؛ منحت إندونيسيا شيخ الأزهر الدكتوراه الفخرية من جامعة «مولانا مالك إبراهيم» الحكومية.
ولفت إلى أن “زيارة فضيلة الإمام تكررت في نهاية أبريل 2018؛ للمباحثة حول أهم التحديات التي تواجه العالم الإسلامي، وكانت زيارتي إلى إندونيسيا أوائل عام ألفين وثلاثة وعشرين، والتي شاركت فيها في حدثين على درجة كبيرة من الأهمية: الأول: الاحتفال بمئوية جمعية نهضة العلماء، والثاني: المشاركة في مؤتمر فقه الحضارة”.
وبيّن الضويني أن الأوطان المتحضرة هي التي تتجاوز التنظير إلى التطبيق، وهي التي تحول الأفكار إلى صيغ عملية مجتمعية تتمتع بحرية العمل وتستجيب لحاجات الناس، ومن هذه الصيغ النافعة التي عملت على تحقيقها دولة إندونيسيا جمعية «نهضة العلماء».
واستطرد: “وإننا إذ نحتفل اليوم بعيدها السنوي، فإنما نحتفل بخدمة متنوعة تقدم لأكثر من 120 مليونا من المنتمين إليها، ونحتفل بمعاهد علمية تزيد على 20 ألف معهد، ونحتفل بعشرات الجامعات والمستشفيات ومراكز التأهيل والتدريب في جميع أنحاء جمهورية إندونيسيا، ونحتفل أيضا بالمنهج والفكر الذي تأسست عليه الجمعية والذي أنتج هذا كله، وإن هذه المنجزات المادية والمعنوية دليل واضح على أن الجمعية تمتلك من المقومات ما يضمن لها البقاء واستمرار العطاء”.
وأوضح وكيل الأزهر أن ما تقدمه جمعية «نهضة العلماء» من جهود علمية وعملية دليل على أن شعب إندونيسيا قد أحسن فهم قيم الإسلام التشريعية والخلقية، وحولها إلى سلوك عملي على مستوى الأفراد والمؤسسات، أوجد لها مكانا في صدارة الدول المتقدمة، فاستطاعت بذلك أن ترد على اتهام أعداء الإسلام بأنه دين الكسل والتواكل، وأنه يعيق التنمية الاقتصادية والسياسية الإسلام، وأن تؤكد بشكل عملي أن الإسلام هو دين عمارة الدارين الدنيا والآخرة.
وأردف: “إننا نجتمع اليوم في لقاء حول «الإنسانية والسلام»، وما أحوج البشرية إلى أن تستلهم قيم السلام وأخلاق السلام”.
وقال: “إذا كنا سنحتفل خلال أيام بذكرى الإسراء والمعراج التي خلد القرآن شأنها في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير» تلكم الذكرى الغالية على قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإن من الواجب أن نفهم أولا أن الإسراء والمعراج ليست معجزة كسائر المعجزات، وإنما هي جزء أصيل من المكون العقدي للمسلم، أيا كان موطنه”.
وأضاف: “لذا كان ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالأقصى والقدس وفلسطين هو ارتباط عقدي إيماني، وليس ارتباطا انفعاليا عابرا ولا موسميا مؤقتا، فالقدس بقعة مباركة، من أقدس البلاد وأشرفها، وهي أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بسير الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-؛ وهي عزيزة علينا، دينا ودنيا، قديما وحديثا، ولن نفرط فيها أبدا مهما كانت المغريات، ومهما عظمت التهديدات”.
وأكد وكيل الأزهر أن “ذكرى الإسراء والمعراج على ما تحمله من معان روحية سامية فإنها تنكأ فينا جراحا لم تلتئم بعد، فها هي أرض المسرى أسيرة، وها هي القدس مدينة السلام وغزة مدينة العزة والإباء يغتال أبناؤهما برصاصات الغدر، وها هم الصهاينة يعتدون على المسجد الأقصى بالاقتحامات، وينتهكون فيه الحرمات، وها هم يسعون لهيكل مزعوم مكذوب، فضحه علم التاريخ وأدلة الحفريات الأثرية”.
وأوضح أن تحرير المسجد الأقصى وعودته للمسلمين خالصا وفلسطين كاملة بإذن الله وعد صادق في كتاب ربنا لن يتخلف؛ حيث يقول الله تعالى: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا»، فتحرير فلسطين قضية محسومة لا يخفى علينا إلا وقتها، ولعله قريب إن شاء الله!، وحتى يأتي هذا الوقت فإن الواجب على المسلمين ألا يخدعوا عن قضيتهم، وألا يصابوا في وعيهم، وأن يحسوا بالواقع الأليم الذي يعانيه أهل فلسطين، وأن يدركوا ما يحاك للقبلة الأولى التي لا تقل شرفا وتعظيما عن بيت الله الحرام.
وشدد وكيل الأزهر أنه إذا “كان لقاؤنا اليوم للحديث عن الإنسانية والسلام، فإن ما يحدث في غزة اليوم لأمر يحتاج إلى وقفة مع عالم اليوم الذي يتغنى بالحرية والديمقراطية، من خلال مؤسسات دولية وهيئات أممية تشهد مواثيقها ومعاهداتها بأن المسجد الأقصى مسجد إسلامي عربي وأن فلسطين أرض عربية تحت الاحتلال، ثم لا يتحرك لهم ساكن وهم يرون هذه الانتهاكات، وما يجري من اعتداء آثم على الفلسطينيين قتلا وجرحا واعتقالا، كل ذلك يحدث في صمت مخز من المجتمع الدولي الذي لم يكترث لكل هذه الانتهاكات ولم يصدر عنه سوى المطالبة بالتهدئة وضبط النفس!”.
وتابع الضويني: “لو أن ما يرتكبه الصهاينة كل يوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قام بعشر معشاره بعض الفلسطينيين تجاه معبد يهودي ولو كان مهجورا؛ لقامت الدنيا ولم تقعد، ولتحركت الدول الكبرى والصغرى، ولشنت المؤسسات الدولية والهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان حملة لا هوادة فيها على المستوى الرسمي والإعلامي تتهم الإسلام فيها بالتطرف والإرهاب، وتصم المسلمين بالهمجية والعنصرية وانتهاك المقدسات، وتصف ما حدث بأنه أبشع صور الإرهاب!، وإننا –نحن أمة العرب والإسلام- أمة سلام، ولكنه سلام القوة وليس سلام الضعف والانكسار والانهزام، وإننا نوقن أن هذا السلام هو الخيار الأوحد للعالم ليتجاوز الثمرات المرة للكراهية”.
وأوضح الضويني أن طريق الأزهر واضح ومحدد، فهو سني يدرس كتب أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة: عقيدة وشريعة وسلوكا، وعلى هذا المنهج المتكامل يربي أبناءه؛ لينهض بهم مادة وروحا، ويحفظهم عقلا وقلبا، ويصلحهم دينا ودنيا وآخرة، وهو إنساني يعنى بالإنسان في شمولية دون أن يطغى جانب على جانب، وهو مؤسسة تراثية معاصرة يرتكن إلى الأصول والثوابت ولا يلغي العصر أو يتجاوز الواقع، مبينا أن خير دليل على وعي قادة إندونيسيا الذين يدركون مسئولياتهم في ظل وجود كثير من التيارات المنحرفة في ربوع الأرض أنهم يرسلون أبناءهم إلى الأزهر وهم موقنون أنهم سيرجعون إلى بلادهم ومعهم العلم الشريف الذي يصون الإنسان، ويحفظ العمران، ويبعث بمزيد من الصلاح والإصلاح.
واختتم وكيل الأزهر كلمته بأن الإسلام الذي ينطق باسمه الأزهر هو دين التسامح والمحبة والسلام، دين يدعو إلى المحبة ونبذ الكراهية بين البشرية جمعاء، دين يوضح أن الأصل في العلاقة بين الناس وبعضهم هو السلم والأمان والتعارف والتعاون، وإننا إذا رجعنا بالتاريخ إلى الوراء وجدناه حافلا بالأمثلة والمواقف التي تجسد معني التعايش السلمي بين الناس جميعا باختلاف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وأعرافهم، حتى صار التعايش السلمي حتميا وضروريا لتحقيق التعاون والوحدة والتواصل الفعال الذي يهدف إلى بناء الأوطان والمجتمعات لا إلى هدمها وتخريبها.